إسرائيل تسابق الزمن مع الثورة السورية
لم تعد الأحداث الدامية في سوريا شأناً داخلياً أو عربياً أو دولياً فحسب، بل غدت حديث الساعة في إسرائيل، وباتت تتصدر نشرات الأخبار وعناوين الصحف وأجندات المجالس الوزارية والكنيست، على اعتبار أن ما يحدث في حمص وبانياس والقصير سيتردد صداه وتأثيراته في حيفا وتل أبيب.
السلاح الكيمياوي
بات واضحاً أن أي عملية إسرائيلية لمنع تهريب السلاح السوري، سواء كان الصاروخي أو الكيمياوي، تطلبت قدرة استخباراتية وعسكرية كبيرة، والتسلل الأمني إلى داخل أسرار النظام السوري، والإغارة على مناطق مزودة بدفاعات جوية من الأكثر تطوراً في العالم.
وقد أوضحت عمليات القصف الإسرائيلية المتكررة على الأهداف العسكرية داخل الأراضي السورية أن التقديرات الاستخباراتية والتخطيطات العملياتية كانت دقيقة، وأن إسرائيل نجحت في حسابها للمخاطرة التي قامت بها، وبدا صحيحاً افتراضها وجود ردع قوية جداً، وأن لدى سوريا وحزب الله وإيران سلّم أولويات مختلفا، ولن يجازفوا بالدخول في مواجهة عسكرية مباشرة، مما دفع السوريين لاستيعاب الهجوم، وبالتالي فإن إسرائيل مطمئنة إلى أن النظام السوري يدافع عن بقائه ضد معارضة داخلية باتت تسيطر على 50% من أراضي سوريا.
ومع ذلك، فإن هناك قناعات تسود في إسرائيل مفادها أن جزءًا من منظومات السلاح السوري التي تشكل خطاً أحمر قد انتقلت فعلا لحزب الله، لكن ثمة أهمية إسرائيلية كبيرة لتخفيض عدد الصواريخ التي يملكها، باستخدام الأسلوب الذي استخدمته خلال الحرب الأخيرة ضد قطاع غزة، بتدمير جزء كبير من الصواريخ قبل إطلاقها، وتدمير الجزء الآخر بواسطة المنظومات الدفاعية المضادة للصواريخ، وما تفعله إسرائيل في سوريا سيسهّل عليها المواجهة مع حزب الله في معركة واسعة مستقبلاً.
ولهذا يمكن الافتراض أن تبعات القصف الإسرائيلي لسوريا لم ينته بعد تكتيكياً وإستراتيجياً، مما يدفع إسرائيل لاتخاذ قرار في مجالين مهمين:
1- إظهار كثير من اليقظة حيال احتمالات تصفية "الحساب المفتوح" من خلال رد محدود أو متأخر، على الجبهة الشمالية أو الخارج.
2- مواصلة العمل ضد نقل السلاح السوري خارج الأراضي، والحؤول دون امتلاك المنظمات المعادية لمنظومات السلاح المتطور والحساس، وهي ما تسميها "الأيدي الخطأ"، وكأن بقاءها بحوزة النظام السوري تعني "الأيدي الصحيحة"!
3- إذا قررت إسرائيل تنفيذ المزيد من العمليات المقبلة، يجب أن تبحث فيما إذا كانت الأوضاع الإستراتيجية تسمح بحرية العمل ضمن إطار مخاطرة منخفضة، أم أن تراكم الحوادث سيؤدي لتصعيد غير مرغوب فيه.
4- قد يكون من الخطأ اعتبار أن عدم الرد السوري على الغارتين الأخيرتين معناه عدم الرد في المرات المقبلة، فالضغط الكبير الذي يُمارس على الطرف الثاني للرد على الهجوم الإسرائيلي قد يؤدي لرد واسع يتسبب في تصعيد خطير.
الحفاظ على الأسد
قبل أيام قليلة نسبت أوساط غربية إلى مسؤول استخباري إسرائيلي رفيع المستوى، رفض الإفصاح عن هويته، أن إسرائيل تفضل بقاء الرئيس السوري بشار الأسد بعد الحرب الأهلية، وليس سيطرة منظمات إسلامية متطرفة، لأن "الشيطان" الذي نعرفه أفضل من الأشباح المجهولة التي قد تسيطر على سوريا، ولذلك فإن نظام الأسد كاملاً، حتى لو كان ضعيفاً، أفضل بعدة مرات من البدائل.
ومع ذلك، فإن تقديرات إسرائيل تشير إلى أن النظام السوري سينهار بسرعة، لأنها لم تقدر في البداية قوة الأسد على شعبه بشكل كاف، واعتقدت أن قوة المعارضة أكبر مما هي عليه، وأكد المسؤول أن إسرائيل تفضل أن يبقى الطرفان منشغلين بالصراع ضد بعضهما بعضا، بدلاً من الحرب ضدها.
لكن الرئيس السابق لجهاز الموساد أفرايم هاليفي فاجأ الجميع مؤخراً بقوله إن الأسد هو رجل تل أبيب في دمشق، وإن إسرائيل تضع في اعتبارها منذ بدأت أحداث الثورة السورية أن هذا الرجل ووالده تمكّنا من الحفاظ على الهدوء على جبهة الجولان طيلة 40 سنة، منذ تم توقيع اتفاقية فكّ الاشتباك بين الطرفين عام 1974، ولذلك فإن إسرائيل ستتدخل في الأحداث بسوريا عند الضرورة فقط، لكن حتى هذه اللحظة لا يوجد أية مؤشرات على أنها قد تتدخل في المستقبل.
ولذلك تبدي إسرائيل قناعة، لها الكثير من التأييد، بأن جميع من سيأتي بعد الأسد سيكون معادياً وخطيراً عليها، وستغدو الساحة السورية بعيدة عن السيطرة، ولذلك فهي تفضل أن يبقى الأسد في الحكم كي لا تسقط سوريا بأيدي محافل إسلامية غير مرغوب فيها.
لكن ذلك يخالف ما ذهب إليه رئيس أركان الجيش السابق غابي أشكنازي، حين أكد أن سقوط الأسد يصب في المصلحة الإستراتيجية الإسرائيلية، وسيكون بمثابة ضربة موجعة للتحالف الإيراني السوري وحزب الله وحركة حماس، طارحاً تصوراته للتدخل العسكري في سوريا، وفرض حظر جوي على أجوائها، أو أجزاء منها.
هنا يظهر التحذير الإسرائيلي من أن استمرار الفوضى في سوريا لمدة طويلة، وتوسع العمليات القتالية، سيجلب الإسلاميين إلى البلاد من كافة أنحاء المنطقة، مما سيهدد الهدوء في الدول المجاورة لإسرائيل، بما فيها لبنان والأردن والعراق، كما أن الأسد قد يفقد السيطرة على مخازن الأسلحة الكيمياوية.
ومع ذلك، فقد احتل التهديد الصادر عن إسرائيل بإسقاط نظام الأسد، إذا ردّ على الغارات الأخيرة، محور اهتمامات العديد من الأوساط السياسية والأمنية، لأنها تفكّر في مهاجمة سوريا مرات أخرى، في حال نقل الوسائل القتالية المتطورة للخارج. وإذا ردّ الأسد، وهاجم إسرائيل، أو حاول ذلك عبر منظمات مسلحة تعمل بتكليف منه، فإنه يخاطر بمصير نظامه، لأنها سترد.
لكن التهديد الإسرائيلي بإسقاط الأسد، إذا ما استقر رأيه على الرد على إسرائيل، لا يتناسب حتى الآن مع الأحداث على الأرض، خاصة وأن المعلومات الاستخبارية الإسرائيلية لا تشير إلى نوايا فورية لدى الأسد وحلفائه بتنفيذ تهديداتهم، وفتح جبهة ضد إسرائيل في الجولان، مما يعني أنها رسالة موجهة لروسيا لمنعها من تزويد سوريا بصواريخ مضادة للطائرات.
كما أن التعامل الإسرائيلي، والموقف من الأحداث الدائرة في سوريا، يعطي انطباعاً واثقاً بأن الطريق لإسقاط الأسد ما زال طويلاً، لأنّ إسرائيل ليس لديها اهتمام حقيقي بدخول دوامة الحرب داخل سوريا، وهي قد تبادر للهجوم إذا لم يكن هناك مخرج آخر، لكنه سيكون مقروناً بمخاطرة كبيرة بنشوب حرب حقيقية بين إسرائيل وسوريا قد تتضرر فيها الجبهة الداخلية بشكل قاس.
اليوم التالي للسقوط
تعتقد إسرائيل أن استمرار ما تصفها بـ"الحرب الأهلية" في سوريا دون وجود إشارة إلى أن أياً من الجانبين يمكنه الفوز على خصمه، وعدم وجود "لعبة النهاية"، يعني أن الجيش السوري آخذ في التآكل التراكمي نتيجة للوفيات والإصابات والانشقاقات، وانخفاض الروح المعنوية، وفقدان قواعد ومخازن الأسلحة، كما أن الكفاءة تترنح في وضع تنازلي.
ومع ذلك فإن هناك مفارقة بين عدم الرغبة الإسرائيلية في التدخل السافر في سوريا، وبين الآثار السلبية لاستمرار القتال الداخلي، وفقدان القدرة على تشكيل دولة سورية بعد نظام الأسد، والتأثير في مستقبلها وطابعها، بحيث يمكن الحديث هنا عن الدوافع المتوفرة لدى إسرائيل للجهات الفاعلة في النظام الدولي والإقليمي لعدم التدخل لوقف إراقة الدماء في سوريا، ومنها:
1- الرغبة بتآكل متبادل من الطرفين اللذين يقاتلان بعضهما بعضاً.
2- رؤية الجيش السوري يسير في عملية الانهيار ويفقد قدراته العسكرية الأساسية.
3- عدم الاهتمام بالتدخل العسكري، خوفاً من إجبارها على إرسال قوات برية لسوريا.
4- شلل النظام الدولي، وعدم قدرته على اتخاذ قرارات بسبب معارضة حلفاء سوريا.
ولذلك تتفق جميع المحافل الأمنية والعسكرية في تل أبيب على أن استمرار الصراع الدائر في سوريا سيعمل على تكثيف الآثار الكارثية، سواء عبر سقوط أكثر من 80 ألف قتيل، وأكثر من مليون لاجئ، أو ازدياد تعزيز نفوذ الجماعات الإسلامية الجهادية في صفوف الثوار، وتدفق المتطوعين الأجانب ممن لديهم الخبرات القتالية.
كما يمكن أن تتحول إلى حرب أهلية طائفية، يصعب معها إعادة إنشاء حكومة مركزية قوية في سوريا، ويرتفع احتمال تفككها مرة أخرى، وبالتالي التحول لدولة فاشلة، مما قد يلقي بظلاله السلبية على الدول المجاورة ومنها إسرائيل، بجانب الأردن والعراق ولبنان وتركيا، مما يعني أن التوقعات الإسرائيلية للمستقبل القريب في سوريا هي استمرار حالة عدم الاستقرار، وغياب الوضوح، وإضعاف الدولة، وتراجع التنمية، وانتشار الفوضى والاضطراب لدرجة التفكك، وفي الوقت نفسه تكثيف متوقع وزيادة نفوذ للجهات الفاعلة من غير الدول والجماعات الإسلامية المسلحة ضد النظم الحاكمة.
أكثر من ذلك، فإن التقدير الذي تتفق عليه دوائر صنع القرار في إسرائيل أن الحرب الدائرة في سوريا ما زالت بعيدة عن نقطة النهاية، وما يسود هناك الآن حالة من التعادل بين الثوار وقوات النظام، تستفيد منها أساساً الفصائل الجهادية العالمية التي تعزّز مكانتها وسيطرتها على مناطق واسعة من البلد، بما في ذلك هضبة الجولان، ولا تستطيع إسرائيل أن تفعل شيئاً كثيراً إزاء هذه الحالة، كما لا يتعين عليها أن تبذل جهوداً كبيرة لإسقاط النظام، لكن في الوقت نفسه عليها أن تعد العدّة لليوم الذي يلي سقوطه.
علماً بأن المصلحة الإستراتيجية الرئيسية من ناحية إسرائيل تكمن بأن تكفّ سوريا عن كونها عنصراً مهماً في المحور الذي تتزعمه إيران، وفي حال سقوط نظام الأسد، فإن قدرة إيران في المنطقة ستتراجع كثيراً، وسيفقد حزب الله في لبنان سنداً عسكرياً ولوجستياً، وسيتقلص خطر الصواريخ الذي يهدد إسرائيل، ويبدو أن هذا ما سيحدث في نهاية الأمر لكن بالتدريج، ويفضل ألاّ تكون إسرائيل ضالعة في حدوثه.
وفي اليوم الذي يتلو سقوط الأسد سوف تتحسب إسرائيل لجملة من التطورات الميدانية، أهمها:
1- منع انتقال منظومات سلاح إستراتيجية حديثة وأسلحة غير تقليدية من ترسانة الجيش السوري لحزب الله، ومنع الفصائل الجهادية العالمية السنّية الناشطة في صفوف الثوار من السيطرة عليه.
2- عدم تحويل هضبة الجولان إلى قاعدة يتم منها تنفيذ عمليات معادية، وإطلاق صواريخ وقذائف هاون على الأراضي الإسرائيلية، ويمكن القول إن اتساع نطاق سيطرة المسلحين الإسلاميين على هذه المنطقة، وانسحاب مزيد من قوات الجيش السوري منها يسرّع بحدوث مثل هذه العملية.
3- كبح إمكان أن تكون سوريا، في حال شنّ هجوم عسكري على المنشآت النووية الإيرانية، ذراعاً لطهران، وتقوم مع حزب الله بإطلاق صواريخ على إسرائيل، لاسيما أن كلا منهما يمتلك عشرات آلاف الصواريخ التي يمكن استخدامها.
4- منع سوريا من الإقدام على استخدام السلاح الإستراتيجي أو الكيمياوي الموجود في حيازتها كتعبير عن يأسها من احتمال إنقاذ نظامها المتهاوي.
أخيراً.. فإن إسرائيل تجد نفسها مطالبة بمتابعة ما يحدث في الأراضي السورية عن كثب من خلال أجهزة الاستخبارات المتعددة، وتتحسب لأن تنزلق الأمور نحو مواجهة عسكرية مفتوحة، رغم أنها لم تصل بعد إلى الخط النهائي المحذور، رغم اقترابها من النقطة التي قد تتحول فيها أيّ عملية إحباط موضعي لما من شأنه أن يفتح المسائل على نطاق واسع نحو التصعيد العسكري مع سوريا.
( المصدر : الجزيرة )
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews