الشروط السبعة للانتصار على الإرهاب.. تونس نموذجا
لا أعرف ما الذي سيتمخض عنه مؤتمر المثقفين حول الإرهاب المزمع عقده في تونس يوم 12 أغسطس/آب، أو المؤتمر الوطني المبرمج لشهر أكتوبر/تشرين الأول، لكنني أريد -كمواطن وحقوقي وخاصة كرئيس سابق باشر الملف في أعلى المستويات- أن أؤشر على بعض النقاط وأن أنبه لمخاطر سياسات قد تؤدي إلى غير النتائج التي تسعى إليها.
لكي نستطيع الارتقاء إلى مستوى التحديات المصيرية التي يطرحها الإرهاب، ليس فقط كظاهرة في حد ذاتها، وإنما أساسا كمؤشر على عمق الاختلالات النفسية-الثقافية-الأخلاقية-الاقتصادية-الاجتماعية-السياسية التي تعاني منها مجتمعاتنا، فإن علينا اعتماد جملة من المواقف والتصرفات والسلوكيات الخاصة والعامة التي لخصتها في النقط السبع التالية.
أولا: وضع حد لخطاب الحقد والكراهية
هذا الخطاب اليوم سواء في الإعلام أو في الفضاء الافتراضي مصدر قلق حقيقي على السلم المدني الذي يجب أن يسود حتى نتمكن جميعا في إطار وحدة وطنية صماء من مواجهة الخطر الكبير. فما من شك أن شيطنة كل السلفيين وكل المعتدلين وكل المطالبين باحترام حقوق الإنسان يضعف جبهة مقاومة الإرهاب ويفتتها، ناهيك عن إعطاء مزيد من الأسباب للمتشددين في الطرف الآخر لتبرير سياساتهم الخاطئة.
إن آخر مثال على هذا الخطاب وخطورته استهداف العشرة نواب من مائتين وسبعة عشر في البرلمان التونسي، الذين تحفظوا على قانون الإرهاب الأخير، فطالب البعض لا أكثر ولا أقل بمحاكمتهم. هؤلاء الناس يدعون الديمقراطية، لكنهم يريدون التصويت لقوانين الحكومة مائة في المائة كما كان الأمر تحت بن علي.
وقبل هجومهم على النواب تعرضت لحملات لا تقل تجنيا تتهمني لا أكثر ولا أقل بمساندة الإرهاب، والحال أنني حملت على كتفي لمثواهم الأخير كل شهداء الواجب المقدس وأن الجيش والأمن لم يعرفا نقلة نوعية في التسليح والإعداد قدر الذي عرفاه إبان رئاستي وأن الخطة الإستراتيجية لمقاومة الإرهاب وضعت في تلك الفترة.
مثل هذه الاتهامات لا تخدم إلا هذا الإرهاب الذي تعتمد خططه أساسا على بث الرعب في المجتمع والتفرقة والحزازات في الطبقة السياسية التي يعتبرها عدوا واحدا.
المشكلة الكبرى في تونس ومصر وغالب دولنا التي تعاني من الظاهرة أننا أمام تشددين: الديني والعلماني (أو الليبرالي كما يقال في مصر). المضحك المبكي في الأمر أن المتشددين من الطرفين -والذين يكرهون بعضهم بعضا بصفة مرضية ويكرهون أكثر المعتدلين سواء كانوا إسلاميين أو علمانيين- يتصورون أنفسهم على طرفي النقيض، وهم توائم مشدودة من عظم الصدر لا يعيشون إلا بوجود عدوهم الذي يعطي شرعية ومعنى لوجودهم.
هم يختلفون ظاهريا في كل شيء، لكن عقولهم مبنية على نفس النموذج: رفض الآخر واحتقاره والسعي لتدميره بالعنف الجسدي المباشر أو بالعنف اللفظي الممهد لمثل هذا العنف. موقفهم هذا مبني على جهل مخيف بأن الآخر أحبوا أم كرهوا جزء من مجتمع حكم عليه التاريخ والجغرافيا بالتعددية بل وبتزايدها وتعمقها في المستقبل، ومن ثم فالحكمة في تعلم التعايش في ظل الدولة الديمقراطية واحترام حقوق الآخرين وليس في حرب عبثية لن تنتهي إلا بانتصار الخراب والموت.
ثانيا: تخلي الأطراف السياسية عن التفويض الساذج للقضية
لا حظوظ لتمرير الحرب ضد الإرهاب كوسيلة للتغطية على نواقص وحتى فشل السياسات الحكومية أو اغتنام الفرصة لضخ الدعم غير المشروط للحكومة وإيقاف الوظيفة الطبيعية للمعارضة. إن محاولة الخلط بين الملفات حيلة لا تنطلي على أحد، والتصرف السليم عدم المزج بين ما يجب أن يوحدنا وهو التصدي للعنف المسلح وبين تباين آرائنا الطبيعي في بقية الملفات. خلافا لما تتصور الحكومة فإن تفاديها الخلط يدعمها ولا يضعفها، لأن الخلط في كل الحالات لن ينقذها من مصاعبها وإنما سيزيد فيها.
ثالثا: اعتماد سياسات متكاملة تواجه الظاهرة في كل مستوياتها المتشابكة
منها القصيرة المدى (العسكرية الأمنية، وترسيخ الحريات، وإدماج أوسع الشرائح الممكنة من السلفيين في اللعبة الديمقراطية) ومنها متوسطة المدى (التنمية الاقتصادية والاجتماعية خاصة في المناطق المهمشة) ومنها بعيدة المدى (التعليم والثقافة في أوسع معانيها).
هنا يجب مواصلة التذكر والتذكير بأن المواجهة عسكرية في مستوى الجزء الظاهر من جبل الجليد، لكن الحرب الحقيقية هي الاجتماعية والاقتصادية والفكرية وخاصة الأخلاقية.
رابعا: التفاف الشعب
الالتفاف المتين لا يكون مبنيا على الخوف من الجماعات الإرهابية والتسليم للدولة بكل ما تريد ومنه إسكات المعارضة وتوسيع سلطانها. يجب أن يكون مبنيا على التمسك العميق بقيم حقوق الإنسان وخيار المجتمع التعددي المتسامح وبالدولة الديمقراطية.
وبقدر ما يرى الشعب بأم عينيه وكل يوم أنه يعيش في ظل حريات ملموسة وأن موارده تستغل في مصلحة الجميع وأن له دولة شرعية تحترمه بقدر ما يقوى التفافه حول دولته ومؤسساتها الشرعية. هكذا يحرم الإرهاب من أي حاضنة شعبية وآنذاك مستقبله مستقبل السمكة في بركة انسحب منها الماء.
خامسا: إعداد الشعب معنويا ونفسانيا
هذا لا يكون إلا بإعلام ضحى بهدف بيع أكثر عدد من نسخ صحف الإثارة أو جلب أكبر عدد من المشاهدين، ليفهم أن دوره هو رفع حصانة الشعب المعنوية بتفادي التهويل والتخويف وباعتماد خطاب التحليل والتحذير من الانسياق للإرهاب النفسي والمعنوي الذي هو قصد التفجيرات والاغتيالات.
إن دوره أيضا ودور كل الخطب السياسية المسؤولة توعية الشعب ومواصلة تذكيره بأن المعركة أولا وأساسا معركة أعصاب ينتصر فيها الأثبت جأشا والأكثر صبرا والأطول نفسا لأننا قد نضطر لمواجهة الآفة على امتداد عقد كامل وحتى أكثر.
سادسا: التنسيق دون تبعية
نعم علينا أن ننسق حربنا ضد الإرهاب مع الدول الشقيقة والصديقة، لكن دون التسليم في استقلالية قرارنا الوطني وفي سيادتنا التامة على أراضينا وسمائنا وبحرنا. نحن لا نستطيع أن نقبل بأن نكون مصدرا للمعلومات وآخر المنتفعين بها.
الأهم من هذا كله ألا نتخذ قراراتنا ونحن تحت خوف ضربنا بهذا النوع من الإرهاب أو ذاك، لأننا إذا استبطنا مثل هذا التهديد وبنينا عليه جزءا من سياستنا فإننا نكون قد سلمنا بجزء من استقلالنا دون أن يحتاج الآخرون حتى لأن يطلبوا منا ذلك.
سابعا: ربح معركة القيم
إذا كان أول انتصار يمكن للإرهاب تحقيقه ضدنا هو بث الرعب في صفوف الشعب وبث التفرقة في صفوف الطبقة السياسية فإن ثاني نصر يحققه هو جعلنا نتصرف في تناقض مفضوح مع مبادئنا.
نعم أنا اليوم كما كنت في التسعينيات جد منشغل بالوضع داخل السجون وبالإيقافات بالجملة وبطول مدة انتظار المحاكمات وبتكاثر الشكاوى ضد التعذيب.
طيلة رئاستي، يشهد الله وتشهد محاضر جلسات مجلس الأمن القومي، أنني حذرت من أي ارتكاب لجريمة التعذيب وأنني دعوت كل النشطاء في حقوق الإنسان لعرض أي ملف جدي علي لأتابعه شخصيا.
مجددا، كلف ذلك ما كلف من شعبية، أنا ضد عقوبة الإعدام في القانون الجديد، وكان على تونس أن تلتحق بصف كل البلدان المتحضرة التي ألغت هذه العقوبة الديماغوجية غير الفعالة والمشينة وغير الإنسانية بدل توسيع رقعتها إلى سبع عشرة حالة، وهو ما لم يتجاسر عليه بن علي في قانون 2003.
متى سيفهم الناس أن تطبيق العقوبة في مصر لم يزد الطين إلا بلة وأن السجون المكتظة بالأبرياء وسوء المعاملة فيها يجعل منها المدارس التي ستفرخ لنا الإرهابيين الذين سنحاربهم.
وبخصوص السجون فقد كنت أقوم كل 10 ديسمبر/كانون الأول بزيارتها في رسالة واضحة للإدارة بأنني أتابع وضع مؤسسات أعرف حالتها المزرية لأنني مررت بها. وكان من جملة مشاريعي التي لم يسعفني الحظ والوقت بتنفيذها إصلاح جذري لها، وكنت كلفت أحد أصدقائي الفرنسيين الدكتور أنطوان لازروس وهو من كبار المختصين في الإصلاح السجني بأن يمدني بأفكاره ومقترحاته التي استقاها من تجربة ثلاثة عقود في الميدان.
كانت قناعتي وستبقى أن درجة التحضر في مجتمع ما تقاس بإنسانية تعامله مع مكوناته الأضعف وهي المساجين والمعاقون والمثليون والأقليات العرقية والدينية والسياسية.
ختاما: نحن نحارب الإرهاب إيمانا منا بأفضلية مشروعنا المجتمعي على مشروعه. نحن نريد إعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس احترام حقوق الإنسان وتوسيع رقعة الحريات والقبول بالتعددية والسعي لإدماج كل مكونات المجتمع ومنها المكونات العقدية في النسيج الوطني بغية تحقيق أقصى قدر ممكن من السلم المدني.
إذا انطلقنا لتحقيق هذه الأهداف من رفض الآخر وتخوينه واتهامه سواء كان معارضا لقانون الإرهاب أو صاحب لحية طويلة، وإذا قلنا إن الغاية تبرر الوسيلة، وإذا قبلنا بمنطق "العجة لا تكون إلا بكسر البيض" فيا خيبة المسعى. لنحذر من القانون الذي سنه فرويد: أنت لا تقاتل عدوا زمنا طويلا إلا أصبحت تشبهه.
علينا الحذر كل الحذر حتى لا تغلبنا حمى الصراع وضرورياته لكي ننتهي شبيهين بأعدائنا لأن السؤال آنذاك: ما الذي جنيناه وما الذي جناه المجتمع من نضالنا إذا كانت هذه هي النتيجة؟
من لا يفهم أن آلة توليد الإرهاب هي الظلم الاجتماعي والاقتصادي والاستبداد السياسي وانهيار القيم وتحقير الهوية، لا يفهم شيئا في إشكالية يدعي حلها. هنا تحضرني مقولة "طبها فعماها".
أخشى ما أخشاه خاصة في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور - أن هذا بالضبط ما نحن بصدد فعله وذلك عندما أرى:
-التراشق بالتهم لمزيد من تأزيم الوضع داخل الطبقة السياسية.
-اغتنام الفرصة لتدجين المعارضة وتهديدها لمنعها من أداء دورها.
-إشاعة خطاب الحقد والكراهية ليس فقط ضد الإرهابيين وإنما ضد جزء من المجتمع وجزء من الطبقة السياسية التي لا تنخرط بصفة عمياء وراء الخطاب المهيمن.
-خلق كل الظروف الذاتية والموضوعية داخل السجون المكتظة لتفريخ الإرهاب إضافة للتي نتوفر عليها من بؤر الفقر والجهل.
-تخويف المواطنين والكذب عليهم (شعار الإرهاب المؤقت إبان الحملة الانتخابية الأخيرة في تونس.
- توسيع الهوة بين المواطنين بدل السعي لردمها.
أذكر الحملة الشرسة لأنصار النظام القديم والمتشددين العلمانيين في أول خطاب لي أمام المجلس التأسيسي والذي قلت فيه إن دور الدولة الديمقراطية احترام المحجبة والمنقبة والسافرة بنفس الكيفية.
قامت القيامة على الكلمة الأخيرة وكأنني قلت السافلة وليس السافرة، وكان المقصود وراء الحملة في الواقع رفض فكرة حق المحجبة وخاصة المنقبة في الوجود، والحال أن مثل هذا الأمر من أبجديات التفكير الحقوقي.
لقد هوجمت بشراسة أيضا لأنني استقبلت السلفيين بل ومكنت الشيخ البشير بن حسن من إلقاء محاضرة في القصر الرئاسي حول السلفية. كانت كل سياستي جلب أكبر عدد ممكن من هذا التيار إلى الحاضنة المدنية والديمقراطية وفك ارتباط الأغلبية المسالمة بالأقلية العنيفة. إحقاقا للحق أقول إن جزءا من السلفية انخرط في المشروع لا يطلب إلا احترام خصوصيته مؤكدا رفضه للعنف.
ما يخيفني في التوجهات الحالية للسلطة والطبقة ''المثقفة'' أنها تبني سياستها في الاتجاه المعاكس، والنتيجة الحتمية دفع عدد متزايد من السلفيين المعتدلين في أحضان التشدد، ولعمري إنها لسياسة انتحارية بأتم معنى الكلمة.
حتى "نطبها ولا نعميها"، علينا أن نواجه أنفسنا قبل مواجهة الآخرين، على كل متكلم وكاتب أن يسعى لتخفيض الاحتقان ومسك أعصابه وتفادي هذا الخطاب التحريضي الذي يعد لنا ويلات سنكتوي بها جميعا وكما يقول المثل الفرنسي "من يزرع الريح يحصد العاصفة".
علينا السعي في كل ما نفعل ونقول إلى إشاعة ثقافة التسامح والاعتدال. علينا خاصة تعميق الحوار شرط أن يكون نزيها هدفه التغلب على الإرهاب لا تصفية الحسابات مع الخصم السياسي، فمثل هذه السياسات هي التي ستساهم في انتشار الآفة لا في الحد منها.
بالطبع علينا دعم المؤسسة الأمنية دون إطلاق يدها ومراقبة أدائها حتى لا تخرج عن القانون، والأهم من هذا كله أن نشمر عن سواعدنا للإصلاحات الصعبة في التعليم والثقافة والعدالة الجبائية ومحاربة الفساد والتنمية في الجهات المحرومة، وإلا فإننا سنكون مثل من يعالج السرطان بالأعشاب والصلوات.
رحم الله كل شهدائنا الأبرار الذين قصف الإرهاب أعمارهم ورحم عليا الرضيع الشهيد الذي أراد الإرهابيون عبر قتله بتلك الطريقة الفظيعة بث الرعب في قلوبنا فلم يزيدونا إلا إصرارا على التشبث بالحياة وبالأمل.
(المصدر: الجزيرة 2015-08-09)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews