معاني الانعطاف التركي في الحرب السورية
أدت مكالمة هاتفية مطولة بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى تغيير بارز في الموقف من الحرب في سوريا، تم التعبير عن بعضه بفتح القواعد العسكرية التركية ولاسيما إنجرليك لطيران التحالف للقيام بطلعات جوية على «داعش» في سوريا، ومبادرة الجيش التركي لقصف مركز لمواقع «داعش» القريبة من الحدود السورية ناهيك عن اعتقال العشرات من مؤيديها وإغلاق بعض مكاتبها ومقراتها السرية، هذا فضلاً عن قصف مواقع لحزب العمال الكردستاني في العراق ولمجموعات الحماية الكردية بالقرب من الحدود التركية مع سوريا. وتكتسب المكالمة أهميتها من تزامنها مع الاتفاق الغربي الإيراني حول النووي. ويتم ذلك كله على قاعدة أزمة حكومية حيث فشل أردوغان في تشكيل وزارة ائتلافية، ومن الصعب أن ينجح خصومه في هذه المهمة، هذا إن قبل بإعطائهم الفرصة ما يعني أن البلاد مرشحة للبقاء في ظل حكومة تصريف أعمال أو حكومة منقوصة الشرعية، وبالتالي ضعيفة دستورياً إلى أن يقرر الرئيس التركي حل البرلمان، وإجراء انتخابات مبكرة في الخريف المقبل. مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها إزاء هذه التطورات الجديدة: هل غيرت تركيا استراتيجيتها حيال سوريا؟ أم اعتمدت موقفاً تكتيكياً؟ هل لهذا التغيير دوافع خارجية دولية وإقليمية أم دوافع تركية داخلية؟ وهل ينعكس تغيير الموقف التركي سلباً أم إيجاباً على الأزمة السورية؟
الحديث عن دوافع التغيير قد يسعفنا في تحديد ملامحه، وبالتالي الإشارة إلى طبيعته التكتيكية أو الاستراتيجية أو المشتركة. الواضح حتى اللحظة أن التغيير نجم عن تطورين بارزين ومتضافرين الأول إقليمي ودولي يتعلق بالملف النووي الإيراني، والثاني داخلي يتعلق بالأزمة الحكومية التركية.
في الملف الأول صار جلياً أن التفاهم الغربي مع طهران قد تم لأسباب عديدة من بينها توسيع إطار الجبهة الدولية لمكافحة الإرهاب الذي يتحرك على أراضٍ واسعة في سوريا والعراق حيث تحتفظ طهران بعلاقات قوية ونفوذ واسع على الأرض في وقت يجمع خبراء واستراتيجيون على أن الحرب على الإرهاب، لا يمكن أن تكون مظفرة إلّا بمشاركة قوات برية وهذا يعني أن الدول الغربية ستحتاج بالضرورة في حربها على «داعش» إلى التعاون مع إيران وأصدقائها في سوريا والعراق للإفادة من قواتهم البرية وخبراتهم القتالية ضد عدو مشترك سواء أكان هذا التعاون حول تقاسم موضوعي لمهمات الحرب براً وجواً أو عبر إرسال التحالف لقوات برية تنسق مع المحور نفسه على الأرض. وهنا لابد من لفت الانتباه إلى أن اعتبار الإرهاب أولوية مطلقة بالنسبة لواشنطن في الشرق الأوسط، أدى إلى تغيير مهم في السياسة الأمريكية تجاه إيران توجت بالاتفاق النووي ومن المتوقع أن ينعكس إيجاباً أيضاً تجاه سوريا.
في ضوء ذلك ما عاد بوسع تركيا أن تلعب منفردة في الملف السوري، فقد ضاق أمامها هامش المناورة وصار رهانها على إسقاط النظام السوري أصعب من ذي قبل فضلاً عن أن لعبتها صارت محصورة في المناطق المواجهة لحدودها بين جيش الفتح الموالي لها و«داعش» ومجموعات الحماية الكردية والغارات الجوية لدول التحالف خصوصاً بعد سقوط إدلب وجسر الشغور ولعل القتال بين هذه الأطراف في الشمال يستدرج تدخلاً تركياً مكلفاً دون أن يفضي إلى منطقة آمنة أو إلى إسقاط النظام السوري، وهما الهدفان التركيان البارزان في هذه الحرب.
هكذا يبدو أن الاتفاق النووي الإيراني قد حمل ثقلاً جديداً إلى الحرب السورية لا يستهان به، لا بل غير جوهري، فمعطيات الصراع وحمل الأتراك على الانتقال من اللعبة الانفرادية في الحرب السورية إلى اللعب من خلال الأطلسي بشروط التحالف وليس بالشروط التركية والدليل فتح القواعد العسكرية التركية أمام قوات التحالف، ولاسيما قاعدة إنجرليك الأمر الذي سيسهم قطعاً في إلحاق أذى أكبر بالإرهابيين الذين يعتقد أن أمريكا عازمة على تصفيتهم قبل أن تغادر الشرق الأوسط.
تبقى إشارة غامضة ألمح إليها رئيس الوزراء التركي، ورفضت واشنطن تأكيدها وهي التزام قوات التحالف الدولي بتوفير منطقة آمنة جواً في سوريا يحميها جيش الفتح، وتمتد إلى حلب التي يراد لها أن تصبح عاصمة مناهضي النظام السوري لكن هذا الافتراض لم تؤكده واشنطن التي قالت إنها تترك الشرح للأتراك حصراً، ما يعني أن افتراض المنطقة الآمنة شكل مخرجاً لتغيير اللعبة التركية في الحرب السورية أكثر من كونه خياراً واضحاً للتحالف الذي اعتبر من قبل أن هذا الخيار متعذر لأنه يحتاج إلى جيش كبير وحرب مختلفة الأهداف.
أما النقطة الثانية المتعلقة بالتغير التركي فتتعلق بالانتخابات الأخيرة التي خسرها حزب العدالة والتنمية وأفضت إلى انتصار كردي غير مسبوق ومن بعد إلى رفض الأكراد تشكيل تحالف حكومي مع أردوغان، وذلك بسبب اهتزاز ثقتهم به منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي حين رفض نجدة كوباني المهددة بالسقوط بيد «داعش».. إلى انفصالهم عنه في الانتخابات النيابية وأخيراً إلى انفجار النزاع المسلح بين الطرفين وانهيار المفاوضات السلمية.
ثمة من ينسب إلى الرئيس التركي نيته جر الأكراد إلى العمل المسلح لتجريمهم وحرمانهم من 13 في المئة من الأصوات التي فازوا بها، وجمع التيار القومي المتشدد من حوله في الانتخابات المبكرة وبذلك يرجع أردوغان بقوة إلى حلبة الحكم.
يملي ما سبق استنتاجاً راجحاً من أن التغيير الذي اعتمده أردوغان إزاء الأزمة السورية ينطوي على تكيف استراتيجي مع التطورات الجديدة التي حملها النووي الإيراني وعلى رهان تكتيكي من أجل العودة بقوة إلى الحكم، وفي الحالين من الصعب ضمان النتائج لا بل ثمة من يعتقد أن فيروسات الحرب السورية باتت كامنة في تركيا، وقد تنتشر في أي وقت.
(المصدر: الخليج 2015-07-29)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews