بلاد النفايات أوطاني
تقول إحدى النظريات النفسية الوجيهة إن عكس الحب ليس الكره بل اللامبالاة، فهي وحدها التي تقف في موقع النقيض التام للحب، أما الكره فهو ليس سوى الوجه الآخر للحب. ما يعكسه التعاطي العام مع أزمة النفايات يعلن بوضوح أن اللبنانيين لا يمارسون تجاه البلد عاطفة كره يبقى بعض الحب متضمّنا فيها، بل يمارسون نفيا تاما للعلاقة معه تجد صيغتها القاسية والفظة والراديكالية في اللامبالاة.
أمام جبل نفايات مكدّس في شارع الحمراء هناك سلسلة حانات عامرة برواد يشربون متجاهلين هذا الجبل الذي يواجههم والذي يطلق روائح تزكم الأنوف. بدا الجبل وكأنه غير موجود أو أن وجوده مماثل لعدم وجوده.
اللامبالاة ليست خيارا سياسيا بل هي تعبير حاد عن أزمة نفسية لأناس ينشدون الخلاص بالتجاهل وليس بإدارة الوقائع كما تفترض السياسة، ما يعكس قناعة تقول إن النفايات ليست مجرد مشكلة أو أزمة بل إنها شكل للعيش بات قدرا لا يردّ.
مقاومة القدر تبدو نوعا من العبث الذي لا طائل من ورائه، لذا فإن السكون والامتثال والرضى بواقع الحال، تمثل ردة الفعل الوحيدة الممكنة في نظر عموم اللبنانيين.
يحيا اللبنانيون مع النفايات كقدر يفرض رمزيته على كل شيء. لطالما كانت سمة الزبالة تطلق على كل شيء في لبنان، بحيث بدت مفردة النفايات وما يشتق منها من مترادفات، وما ينتمي إلى حيّزها الدلالي من معان وصـور، يكاد يشكل كامل اللغة المتداولة التي تستعمل في وصف الأحوال وتفسيرها.
النفايات بدت تفسيرا حسيّا شديد الوضوح لكل رمزية الوضع اللبناني بكل تشعّباته. بدا وكأن البلاد قد تعرّت فجأة وكشفت عن أحشائها وعن كل ما تخفيه في بواطنها وفي عقلها وقلبها دفعة واحدة. لم يعد هناك أسرار ولم يعد هناك ما هو غامض وخفي. كل شيء بات معروضا في العلن، وكأن النفايات كانت هي الجغرافيا النهائية التي يسكن فيها الجميع وقد انفجرت وفاضت فجأة بشكل لم يعد من الممكن ترميمه.
طبيعة المعالجات المقترحة والتي تفصل نقل النفايات إلى عكار تقول إن الآفات بدأت تتخذ في لبنان طابعا طبقيا بارزا، حيث يكون على الفقراء تحمّل ما سينتج عن طمر نفايات العاصمة من علل بيئية وصحية، وخاصة أنه لا توجد مطامر مستوفية الشروط في عكار.
عكار اسم تكرّر ذكره مرات عديدة في هذه الآونة من زاوية السعي إلى طمر النفايات فيها في حين أنه يكاد لا يذكر حين يتعلّق الأمر بافتتاح مشاريع كبرى، أو في مجال التنمية والإنماء. باتت عكار موجودة وحية حين باتت النفايات أزمة وجودية تهدّد بنسف آخر معاقل انتظام العيش في البلد، وكأنها وجدت بالأزمة ومن خلالها ولم يكن لها وجود قبلها.
كان السياسيون اللبنانيون يمارسون اللامبالاة كمنطق خاص بهم يحكمون من خلاله البـلاد بصيغة تسمح لهم بعدم الغوص في وحول الأزمات اليومية ومفاعيلها دون توقع ردود فعل وغضب من الناس. نسخ الشعب عن السياسيين هذه الفكـرة وعمد كذلك إلى ممارسة اللامبالاة وعيشها.
أصبحنا إزاء حالة من اللامبالاة الشاملة التي تعلن عن نهاية البلد سياسيا وحتى عاطفيا إذا صحّ التعبير.
يمارس الشعب اللبناني سياسة سياسييه. يحرم نفسه بذلك من أن يكون كائنا حقوقيا مطلبيا، ويحرم نفسه من الحق في محاسبة السياسيين الذين استبطن احتقارهم له وللبلاد واستنسخه بدل أن يمارس نقيضه.
لا تنتهي الشعوب ولا الأوطان إلا حين تنجح فكرة سلبية ونهائية في التسلل إلى أعماق اللاوعي الجماعي والسيطرة عليه، والتحول إلى سمة ترسم ملامح الشخصية العامة لكل المواطنين.
ما يؤذن باكتمال النهايات في بلاد الأرز هو أن تلك الفكرة الخطيرة التي تسمّى اللامبالاة استحالت واقعا عاما ليس أدل عليه سوى التعامل مع مأساة كبرى وشاملة من قبيل أزمة النفايات بالسخرية المجبولة باليأس التام من التغيير.
المواطنون اللبنانيون يتهافتون على التقـاط صور إلى جانب جبال النفايات المكدسة تحت عنوان “سيلفي وجبل النفايات خلفي”.
لم تعد السخرية في هذه الحال انتقادا، بل تحولت إلى نوع من احتقار عميق للذات وللبلد يشي بأن السيلفي القادمة الممكنة لن تكون سوى “سيلفي والخرائط المحروقة خلفي”.
(المصدر: العرب 2015-07-25)
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews