فوضى الخطاب الديني في مصر

الاهتمام بتجديد الخطاب الديني في مصر خلال الفترة الماضية، جعل كثيرين يتفاءلون بالدعوات التي خرجت من جهات رسمية وغير رسمية، لتصحيح الأخطاء التي شابته، وسمحت لقوى ظلامية بأن توجد لها مكانة في قاع المجتمع المصري، لكن النتائج التي وصلت إليها عملية التجديد حتى الآن لا تبشر بالخير، ولا توحي بأن هناك تغييرا حقيقيا.

فلا تزال الجهات التي أسندت إليها هذه المهمة، الأزهر ووزارة الأوقاف تحديدا، مشغولة بتبرئة ساحتها من مسؤولية الانسداد الذي وصلت إليه الأمور، وسمح لتيارات متطرفة أن تتقدم الصفوف، وبذل جهود كبيرة لرمي الكرة خارج ملعبها، دون أن تحرك ساكنا لتشخيص الأزمة بدقة وعلاجها من جذورها، الدينية والثقافية والاجتماعية، بطريقة تتلافى الأخطاء التي نجمت عن التصرفات المتباينة في المرحلة السابقة، بل شغلت بعض الجهات نفسها بالتفكير في كيفية الاستحواذ على دور أكبر، على حساب أخرى، كان من المفترض أن تكون العلاقة معها تكاملية وليست تنافسية، وبدلا من التنسيق بين وزارة الأوقاف والأزهر، دخل الطرفان في معارك جانبية لكسر العظم، أدت إلى مواصلة الدوران في الحلقة المفرغة، بصورة سمحت لمتشددين بأن يحافظوا على مكاسبهم التي انتزعوها من قبل.

كانت أكثر تجليات الأزمة سطوعا، تنحّي الأزهر عن القيام بواجباته، فلم يهتم كثيرا بتغيير نمط التفكير لدى علمائه ومنتسبيه وخريجيه، بما يتناسب مع الدور المنوط به في هذا المجال، ولم يقدم وصفة ناجعة تعكس الثقة التي تعول فيها الدولة عليه، والتي رسمها الدستور المصري، وفضل أن يتنحى عن جزء معتبر من وظيفته، تجنبا لمزيد من المشاكل في بعض هياكله، وخوفا من الدخول في صراعات مع مؤسسات أخرى، دينية ومدنية، خاصة أن إرهاصاتها ظهرت في حملات متنوعة، طالت شيخ الأزهر شخصيا.

وبدلا من مواجهتها والتصدي لها، آثرت المشيخة الانحناء للعاصفة، وهو ما شجع المتضررين من توجهات التجديد وسياساته، من السلفيين والإخوان، على السعي للتحايل على ما بدا كأنه قرارات حاسمة تنظم عمل خطباء المساجد، ونجحوا في استغلال بعض الثغرات، وحافظوا على دورهم الدعوي في بعض المناطق النائية، وتحدى عدد منهم سلطة الدولة بطريقة سافرة.

وزارة الأوقاف التي بدت كرأس حربة لمواجهة المتطرفين، حصرت مهمتها في إنزال كل من ينتسب للإخوان والسلفيين من على المنابر، وطالبت كل من يريد أن يصعد إليها، من غير خريجي الأزهر، الحصول على رخصة أو تصريح، وبذلك نفت على جميع خريجي الأزهر تهمة التشدد، وحصرتها في نطاق غير المنتسبين إليه، الأمر الذي يجافي الحقيقة، لأن هناك من حصلوا على أعلى الشهادات من الأزهر ويتبنون خطابا متطرفا، وهناك من لم ينخرطوا فيه أو يقتربوا منه، وتبدو عليهم علامات الاعتدال والتسامح واضحة.

المسألة لم تتوقف عند هذا الحد، حيث انهمكت وزارة الأوقاف في رصد أسماء غير المرغوب فيهم، ووضعتهم ضمن لائحة أطلقت عليها وصف “القائمة السوداء”، حوت أسماء الأئمة والخطباء المنتمين إلى الإخوان، تمهيدا لمنعهم من الوصول إلى المنابر وإلقاء الخطب، مع ذلك فشلت في تطبيقها، خلال صلاة عيد الفطر المبارك، فقد انقسمت المساجد والساحات التي خصصت لصلاة العيد على مستوى الجمهورية، بين منتسبي وزارة الأوقاف والإخوان والسلفيين، وتحولت المساجد والساحات إلى فضاء للسباق، لمعرفة أيهم يجذب الكثير من المصلين.

ما حدث خلال صلاة التراويح طوال شهر رمضان وفي صلاة عيد الفطر، يدق ناقوس الخطر، حيث أكد أن عملية تجديد الخطاب الديني، التي تتبناها مؤسسات مختلفة في الدولة أقرب إلى “الشو الإعلامي”، وبعيدة عن مضمونها الحقيقي، فهي تسير عكس الاتجاه المرجو منها، ولعل واقعة الشيخ محمد جبريل الذي أم المصلين في مسجد عمرو بن العاص ليلة السابع والعشرين من رمضان الماضي تمثل تسطيحا لفكرة تجديد الخطاب الديني، كما أنها وضعت النظام في حرج بالغ، فقد جرى إصدار قرار بمنعه نهائيا من الخطابة، لمجرد أنه دعا على الظالمين في دعاء القنوت، دون أن يحدد أسماء شخصيات معينة، لكن العقاب الذي أنزلته وزارة الأوقاف على الرجل أضفى على دعائه مسحة سياسية، وكأنها تعترف بعدم الثقة في التصرفات التي يتخذها النظام الحاكم في مصر حاليا.

الطريقة الخاطئة التي تدار بها مسألة تجديد الخطاب الديني حافلة بعلامات الفوضى وعدم التركيز، تتجاهل البحث في الجذور، وتتمسك بالهوامش والفروع، بما وفر الأجواء المناسبة للجماعات المتطرفة للاستمرار على قيد الحياة، والقتال من أجل منع تجديد الخطاب، وزيادة حجم المتعاطفين معها، وتوظيف الإخفاق الظاهر على أداء المؤسسات الدينية الرسمية لصالحها، وبالتالي تكوين روافد جديدة في المجتمع، يمكن أن تكون ذخيرة حية لها في المستقبل، مستفيدة من الارتباك الحاصل في تجديد الخطاب، الذي من المفترض أن ينطلق من خطة متكاملة ومدروسة. ما لم تشعر الجهات الدينية بتغيير المنهج الذي تتبناه، وتتخلى عن الطريقة البدائية التي تدير بها ملفا في منتهى الحيوية، سوف تخسر المزيد من الأراضي الثقافية أمام فريق عنيف من المتشددين، نجح في إيجاد قواعد له في المجتمع المصري لا تزال تمسك بأهدابه، رغم الضربات الأمنية والسياسية التي وجهت إليه في الآونة الأخيرة.

القضية جادة من كل الوجوه، والتعاطي معها بعقل منفتح ورؤية شاملة، يكشف إلى أي درجة يمكن تجاوز أخطاء المرحلة الماضية، وفي ظل تغول سوس المتطرفين من الضروري أن تكون الحلول المطروحة تملك مروحة فكرية واجتماعية وثقافية أكثر اتساعا، تتوقف عند جميع التفاصيل، الصغيرة منها والكبيرة، التي تسد منابع الإرهاب، وتوقف زحفه وانتشاره وسط المجتمعات الفقيرة في مصر.

(المصدر: العرب اللندنية 2015-07-20)