حقيقة التوحّد وكيف يتعامل معه الوالدان؟

جي بي سي نيوز - التوحّد، هل هو مرض نفسي أم حالة نفسية أم اضطراب في النمو يصيب الأطفال؟ وهل يصيبهم منذ ولادتهم أم خلال الحمل أم في عمر السنة والنصف إلى السنتين؟ وهل التوحد وراثي أم أن له أسباباً طبية أم تلعب البيئة دورها في ظهور هذا المرض؟ أسئلة كثيرة تقدمنا بها إلى الطبيب النفسي والإخصائي الدكتور أنطوان شرتوني الذي فسر لنا هذه الحالة التي لم يتم اكتشاف دواء لها حتى يومنا هذا.

ماذا عن التوحّد وذكرياتك مع المرضى الذين قمت بعلاجهم؟

في إحدى الندوات التي شاركت فيها حول موضوع "التوحد"، لفتني طفل لا يتعدى عمره أصابع اليد الواحدة، يعاني من التوحد.

خلال ثوانٍ سريعةٍ، عدت بذاكرتي إلى حالات توحد عاينتها في تدريبات شاركت فيها خلال وجودي على مقاعد دراستي الجامعية، وتذكرت خصوصاً الحالة الأولى التي قرّبتني إلى المعنى الحقيقي للتوحد، بعيداً عن الكتب والتفسيرات الكثيرة وغير المؤكدة، فاكتشفت خلال ممارستي للمتابعة النفسية، كم تحتاج العائلات إلى كثير من الجهد للوصول إلى التشخيص الصحيح للتوحد وكم تكون الحقيقة صعبة ومؤلمة، وتستمر معاناة العائلة وحاجتها لمعرفة كيفية التعامل مع طفلها واتخاذ التدابير والتربية المختصة الصحيحة له، وهنا يكمن دور المجتمع والجمعيات الاجتماعية التي تعنى بالتوحد.

لكن ما هو التوحّد؟

التوحّد ببساطة هو إعاقة تؤدي إلى عدم استيعاب الدماغ للمعلومات الحياتية، التحليلية، الاجتماعية، ومعالجتها، ويؤدي انعدام الاستيعاب هذا إلى حدوث مشكلات عند الطفل تتعلق بكيفية التواصل بمن حوله، وإلى اضطرابات في اكتساب مهارات التعليم السلوكي والاجتماعي. وتصيب إعاقة التوحد الذكور أكثر من الإناث "بمعدل أربعة ذكور إلى أنثى واحدة، وهي إعاقة تصيب الأسر من الطبقات الاجتماعية كلها ومن الأجناس والأعراق كلها.

وينعكس التوحد صعوبات في مجال التواصل اللفظي وغير اللفظي "مع العائلة القريبة والبعيدة وفي الارتباط بالعالم الخارجي"، كما يؤثر التوحد في التفاعل الاجتماعي ويسبب كذلك صعوبات في ممارسة النشاطات الترفيهية.

ما أبرز أسباب التوحّد؟

إن أسباب التوحد مجهولة حتى يومنا، مع أن العديد من الدراسات حاولت اكتشاف اسباب إعاقة التوحد التي لا تزال مجهولة حتى يومنا هذا، فالطب وعلم الوراثة، يعتبران أن التوحد سببه جيني أو خلل عصبي ووظيفي في الدماغ، كما يعتبران أن التوحد ربما يكون بسبب إصابات الدماغ قبل أو بعد الولادة، وهناك فرضيات أخرى لظهور التوحد منها: فرضية نقص فيتامين "أ" وفرضية الاستعداد الجيني وفرضية التلوث البيئي، أما بالنسبة لعلم النفس التحليلي، فإنه يعتبر أن التوحد سببه نفسي ـ عائلي، كل هذه الفرضيات وأخرى لا تساعدنا على الجزم بصورة قاطعة السبب الرئيسي للإصابة بالتوحد.

كما أننا نلاحظ عند الأشخاص الذين يعانون التوحد سلوكاً متكرراً كتكرار كلمات أو جمل، تكرار حركات في أيديهم، أو في أجسامهم، اللعب بلعبة معينة على شكل سيارة بشكل متكرر وفي صورة غير طبيعية، مثلاً اللعب فقط بإطارات السيارة، من دون محاولة التغيير إلى لعبة أخرى، وفي حالات نادرة، نلاحظ وجود سلوكٍ عدوانيٍ تجاه الغير، أو تجاه الذات، ومن أهم المشكلات التي يعانيها الطفل المتوحد هي عدم قدرته على التواصل.

كيف يمكن التواصل عند الطفل المتوحّد؟

التواصل هو إرسال رسالة "شفهية أو كتابية أو حركية" إلى شخص آخر لسبب معين، مثل طلب مساعدة ومشاركة فكرة، وهنا يتفاعل المتكلمان؛ الطفل الذي يعاني التوحد لديه صعوبة في التفاعل وهنا يأتي دور الوالدين في تعزيز قدرتهما على التفاعل مع ولدهما المصاب بالتوحد.

كيف تتعامل العائلة التي تربي طفلاً يعاني التوحّد؟

إن أول ردة فعل عند الأهل عندما يعرفون بحالة طفلهم المصاب بالتوحد، هي الغضب والحزن، الإحساس بالذنب والخجل واليأس، حتى الوصول إلى عدم تقبل الحقيقة والطفل بحد ذاته، فالوقوف إلى جانب الوالدين ضروري خاصة الوالدة، فالاهتمام المستمر بولدها قد يقلل من اهتمامها لعائلتها، ما ينعكس على الأسرة ككل، وهنا التعاون والتفاهم مع الزوج والمساعدة من قبل عائلتهما، والمجتمع والإيمان بالله، كل ذلك يساعد العائلة نفسياً، فوجود ولد لديه إعاقة خاصةً التوحد، يؤثر في أسلوب حياتهم اليومية والاجتماعية على حد سواء، فيجب الاهتمام بعدم الثراء على حساب حالة العائلة والطفل، لأن ذلك يؤدي إلى إحباط الوالدين وانعزالهما، بل تجب مساعدتهما والنظر إلى الحياة بشكل إيجابي ودفعهما إلى الخروج للمتنزهات والأسواق وعدم الانعزال والتقوقع،

كما يطلب من الوالدين طلب المساعدة من المختصين والمؤسسات الاجتماعية للتدريب وتعليم طرق، تساعدهما للتأقلم مع ولدهم المصاب بالتوحد ولتبادل الخبرات والتجارب وأيضاً للدعم النفسي، ويمكن الاستفادة من تجارب وخبرات العائلات الأخرى التي لديها طفل مصاب بالتوحد أيضاً،

أما ضمن العائلة، فتجب محاولة فهم متطلبات الطفل المتوحد وذلك من خلال تحفيز التواصل والتفاعل الاجتماعي معه، وبالتالي فإن مساعدة الأهل على إقامة التواصل الكلامي وغير الكلامي وتقويته مع طفلهم ينمي قدراته في حياته اليومية.

ماذا عن أفضل السبل الفاعلة لإقامة جسر تواصل وتفاعل مع الطفل المتوحّد؟

أولاً يجب الاستماع إلى الطفل المتوحد أو محاولة فهم ما يقصده، فالاستماع إلى ما يعبّر عنه بطريقة مباشرة "الكلام" أو غير مباشرة "إشارة الإصبع" يساعد في فهم مطلبه، ومن أهم الوسائل التي نعتمدها بدلاً من استعمال الكلام، "عند الأطفال المتوحدين الذين لا ينطقون أبداً"، الصور وإشارات الإصبع والإشارات الحركية والإيمائية.

ثانياً: تجب مراقبة الطفل في التعبير عن حاجاته، فهذا يساعد في فهم "سياسة" الطفل للتعامل مع العالم الخارجي. ومن المهم عدم تغيير نمط معيين من تعابيره، وعند الطلب منه القيام بأمر معين، يجب أن يكون السؤال واضحاً وقصيراً وغير معقد، ويجب تكراره في طريقة سليمة وصحيحة وانتظار الاستجابة، وتسهم المساعدات البصرية في فهم كلامه وهذا يقلل من التشنج بين الطرفين، كما تساعد في التعبير عن الذات وعن ما يتوق إليه الطفل "مثلاً استعمال إشارة نعم/ لا".

ثالثاً، انتظار ما يريد الطفل أن يعبر عنه، ما يتطلب الصبر في بادئ الأمر، ويجب إعطاء الوقت والفرصة الكافيَين لفهم الطفل المتوحد.

رابعاً، بعد الاستماع والمراقبة والانتظار، يمكن للأهل التدخل للتجاوب مع مطلب ولدهم ومشاركته في حياته الخاصة، فعدم كثرة الكلام وتبسيط الجمل والتشديد على الكلمات المهمة في الجملة والتمهل واستعمال الطرق البصرية والتكرار هي من أهم الوسائل التي تساعد الطفل المتوحد في الانخراط في عملية التواصل والتفاعل.

مساعدة الأهل من قبل عائلاتهم والمجتمع والجمعيات تساعد في استيعاب التوحد وكيفية التعاطي معه بالطرق المناسبة، كما أن التواصل الكلامي وغير الكلامي يحفزان الطفل المتوحد للاندماج ضمن عائلته ولاحقاً ضمن مجتمعه.