مانويل دو أوليفيرا: الملاك الحارس!
جي بي سي نيوز - المرة الأولى "التقيتُ" فيها المخرج البرتغالي مانويل دو اوليفيرا (1908 - 2015)، كانت السنة التي سبقت قبل بلوغه المئة. شاهدته يمشي بعصاه الأسطورية على رصيف الواجهة البحرية في ليدو البندقية وخلفه سيدة تسعينية تصرخ "مانويل مانويل مانويل... انتظرني!". لا اعرف اذا كانت زوجته ماريا التي تزوجها في العام 1940 ولم يتفارقا منذ ذلك الحين. في العام التالي - وكان هو قفز فوق المئة - في فندق "اكسلسيور" الفينيسي، كنت ادخل الحمام - وكعادتي أدفش باب الحمّامات العامة إما بكوعي إو رجلي - فوجدته خلف الباب يستعد لسحب السيفون. في لحظات كهذه، لا يعرف المرء ماذا يقول، فقلت له اسخف شيء يمكن أن يخطر في البال: "تعال لنؤرخ هذه اللحظة بصورة؛ صورة للتاريخ". بدهشة سألني: "هنا...؟ في المرحاض؟". خرجنا من الحمّام، مشينا اربع خطوات او خمساً، والتقط صديق لي كان يمرّ من هناك صورة لنا. تاريخية؟ لا اعرف. لكنها صورة رجل كان بمنزلة شاهد على قرن كامل من تاريخ اوروبا، ومن تاريخ السينما فيها التي بدأ ينشغل بها منذ ايام الفيلم الصامت، وحتى العام الماضي كان يصّر، وهو في الـ105 من عمره، ان يقدم بنفسه افلامه إلى الجمهور في مدينته بورتو.
لنتخيل لحظة رجلاً بدأ يصنع الأفلام أيام السينما الصامتة وعاصر الناطق والألوان وكلّ التحولات التقنية التي شهدتها الشاشة وصولاً الى الأبعاد الثلاثة وثورة الديجيتال، ولا يزال نشطاً مواظباً معطاءً ينهض صباحاً ليفكر في مشروع جديد، لا بل يعود الى الفيلم القصير ("عجوز ريستيلو" - 2014)، ختاماً لمسيرته التي بدأها كومبارساً في أحد الأفلام الصامتة وهو في العشرين. من السينمائيين الذين انطلقوا في عهد السينما الصامتة، كان الوحيد الذي لا يزال بيننا، يأتينا، بين فترة وأخرى، بفيلم جديد. انه ايضاً الشاهد الأكبر على السينما وتطوراتها واتجاهاتها المختلفة، وأحد دعاة اعادتها الى ينبوعها، ذلك الذي رشف منه مثله العليا، من دراير الى ميزوغوشي. ظلّ يشارك في المهرجانات حتى سنوات قليلة قبل تدهور صحته، يتكئ على عصاه الغليظة ويمشي بخطى سريعة. الى السينما التي قدّمها، كانت هذه طريقته ليتحدى اخطار التحول الى قطعة اثرية في متحف. لم يكن يستسغ أن تعتّم مسألة العمر المديد التي كانت تُثار في المقابلات الصحافية على شغله، فيصبح هو الموضوع بدلاً من أفلامه.
في الأوساط السينمائية، كان الناس يضربون المثل به عندما يشعرون بوطأة العمر وتبعاته: رجل أعتق من ذكرى استقلال معظم الدول المعاصرة، زمنياً أبعد من أقدم اختراع عرفوه، ولا يزال يمارس الاخراج بنشاط رهيب، متجاوزاً الظروف البيولوجية، بحبّ وتفانٍ قلّ نظيرهما. كان في السادسة عندما اندلعت الحرب الاولى، في الستينات من عمره عندما وضع نيل أرمسترونغ قدميه على سطح القمر، على مشارف المئة في 11 أيلول، وابن مئة وستة أعوام عندما رمى عصاه بعد مسار يمتد على 80 عاماً. يكاد عمره يكون من عمر السينما نفسها التي احتفت قبل أيام بالذكرى الـ120 لولادة هذا الفنّ الذي كان سيبصح الأكثر شعبية بين الفنون. كثر من عمالقة السينما ولدوا بعد ولادته بعقود، وماتوا قبل موته بعقود. وجوده ملاكاً حارساً للسينما، كان طبيعياً الى حدّ أن موته - أكثر من حياته الطويلة - "هو" الأعجوبة!
مواضيع ساخنة اخرى
- لمزيد من الأخبار تواصل معنا عبر :
- تابِع @jbcnews